30 May
30May

{فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }

 قصة من وفاء العهد عند العرب 

عن العباس صاحب شرطة المأمون قال: دخلت يوماً إلى مجلس أمير المؤمنين ببغداد وبين يديه رجل مكبل بالحديد فلما رآني قال لي يا عباس قلت لبيك يا أمير المؤمنين قال خذ هذا إليك فاستوثق منه واحتفظ وبكر به إلّي في غد واحترز عليه كل الاحتراز قال العباس فدعوت جماعة فحملوه ولم يقدر أن يتحرك فقلت في نفسي مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الإحتفاظ به ما يجب إلا أن يكون معي في بيتي فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري ثم أخذت أسأله عن قضيته وعن حاله ومن أين هو فقال من دمشق فقلت جزى الله دمشق وأهلها خيراً فمن أنت من أهلها ؟

قال وعمن تسأل ؟

قلت أتعرف فلاناً قال ومن أين تعرف ذلك الرجل؟!!

 فقلت وقع لي معه قضية في شبابي قبل 40سنة
فقال: ما كنت بالذي أعرفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه.
فقال: ويحك كنت مع بعض الولاة بدمشق فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى أن الوالي تدلى في زنبيل من قصر الحجاج وهرب هو وأصحابه وهربت في جملة القوم فبينما أنا هارب في بعض الدروب وإذا بجماعة يعدون خلفي فما زلت أعدو أمامهم حتى فتهم فمررت بهذا الرجل الذي ذكرته لك وهو جالس على باب داره فقلت أغثني أغاثك الله قال لا بأس عليك: أدخل الدار فدخلت فقالت زوجته أدخل تلك المقصورة فدخلتها ووقف الرجل على باب الدار فما شعرت إلا وقد دخل الرجال معه يقولون هو والله عندكم فقال دونك الدار فتشوها ففتشوها حتى لم يبق سوى تلك المقصورة وامرأته فيها فقالوا ههنا فصاحت بهم المرأة ونهرتهم فانصرفوا وخرج الرجل وجلس على باب داره ساعة وأنا قائم أرجف ما تحملني رجلاي من شدة الخوف فقالت المرأة: أجلس لا بأس عليك فجلست فلم ألبث حتى دخل الرجل فقال :لا تخف قد صرف الله عنك شرهم وصرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى فقلت له جزاك الله خيراً فما زال يعاشرني أحسن معاشرة وأجملها وافرد لي مكاناً في داره ولم يحوجني إلى شيء ولم يفتر عن تفقد أحوالي فأقمت عنده أربعة أشهر في أرغد عيش وأهنئه إلى أن سكنت الفتنة وهدأت وزال أثرها
فقلت: له أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد حال غلماني فلعلي اقف منهم على خبر فأخذ علي المواثيق بالرجوع فخرجت وطلبت غلماني فلم أر لهم أثراً فرجعت إليه وأعلمته الخبر وهو مع هذا كله لا يعرفني ولا يسألني ولا يعرف اسمي ولا يخاطبني إلا بالكنية
فقال: لي علام تعزم فقلت قد عزمت على التوجه إلى بغداد وحاول ان يثنيني فلم اجبه واصريت  فقال:ان كان ولا بد فإن القافلة بعد ثلاثة أيام تخرج وها أنا قد أعلمتك فقلت له إنك قد تفضلت علي هذه المدة ولك علي عهد الله إني لا أنسى لك هذا الفضل ولا وفينك مهما استطعت  فدعا غلاما له أسود وقال له أسرج الفرس الفلاني ثم جهز آلة السفر فقلت في نفسي أظن أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي في شانة 

 فأقاموا يومهم ذلك في كد وتعب فلما كان يوم خروج القافلة جاءني في السحر وقال لي يا فلان قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها فقلت في نفسي كيف أصنع وليس معي ما أتزود به ولا ما أكري به مركوباً ثم قمت فإذا هو وامرأته يحلان بقجة من أفخر الملابس وخفين جديدين وآلة السفر ثم جاءني بسيف ومنطقة فشدهما في وسطي ثم قدم بغلاً فحمل عليه صندوقين وفوقهما فرش ورفع إلي نسخة ما في الصندوقين وفيهما خمسة ألاف درهم وقدم إليَّ الفرس الذي كان جهزه وقال أركب وهذا الغلام الأسود يخدمك ويسوس مركوبك وأقبل هو وامرأته يعتذران إليَّ من التقصير في أمري وركب معي يشيعني الى اطراف المدينة وأنصرفت إلى بغداد وأنا أتوقع خبره لأفي بعهدي له في مجازاته ومكافأته أنا أسأل عنه فلما سمع الرجل الحديث قال لقد أمكنك الله تعالى من الوفاء له ومكافأته على فعله ومجازاته على صنعه بلا كلفة عليك ولا مؤنة تلزمك

 فقلت: وكيف ذلك!! 

 قال: أنا ذلك الرجل وإنما الضر الذي أنا فيه غير عليك حالي وما كنت تعرفه مني!!
 ثم لم يزل يذكر لي تفاصيل الأسباب حتى أثبت معرفته فما تمالكت أن قمت وقبلت رأسه ثم قلت له فما الذي آل بك إلى ما أرى

 فقال هاجت بدمشق فتنة مثل الفتنة التي كانت في أيامك فنسبت إلي من بعض الحاقدين وحملوني اسبابها ظلم   وبعث أمير المؤمنين بجيوش فأصلحوا البلد وأخذت أنا وضربت إلى أن أشرفت على الموت وقيدت وبعث بي إلى أمير المؤمنين وأمري عنده عظيم وخطبي لديه جسيم وهو قاتلي لا محالة وقد أخرجت من عند أهلي بلا وصية وقد تبعني من غلماني من ينصرف إلى أهلي بخبري وهو نازل عند فلان فإن رأيت أن
تجعل من مكافأتك لي أن ترسل من يحضره حتى أوصيه بما أريد فإذا أنت فعلت ذلك فقد جاوزت حد المكافأة وقمت لي بوفاء عهدك
 قال العباس قلت يصنع الله خيراً ثم أحضر حداداً في الليل فك قيوده وأزال ما كان فيه من الأنكال وأدخله حمام داره والبسه من الثياب ما احتاج إليه ثم أرسل من أحضر إليه غلامه فلما رآه جعل الغلام يبكي وهو يوصيه الى ان اتم وصيته

وقام العباس  فاستدعى نائبه وقال:
الي بالفرس الفلاني والبغلة الفلانية حتى عد عشرة ثم عشر من الصناديق ومن الكسوة كذا وكذا ومن الطعام كذا وكذا وأحضر بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكيساً فيه خمسة ألاف دينار وقال لنائبه في الشرطة خذ هذا الرجل وشيعه إلى حد الأنبار ثم اتركة يرحل
فقال الرجل له: إن ذنبي عند أمير المؤمنين عظيم وخطبي جسيم وإن أنت احتجيت بأني هربت بعث أمير المؤمنين في طلبي كل من على بابه فأرادوا قتلي!!.
فقال العباس أنج بنفسك ودعني أدبر أمري فقال الرجل : والله لا ابرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك فإن احتجت إلى حضوري وحضرت ولن اضيعك واحملك وزري واصر على ذالك
فقال: العباس لصاحب الشرطة إن كان الأمر على ما يقول فليكن في موضع كذا فإن أنا سلمت في غداة غد أعلمته وإن أنا قتلت فابلغة مامنة فقد وقيته بنفسي كما وقاني بنفسه وأنشدك الله أن لايذهب من ماله درهم وتجتهد في إخراجه من بغداد وقال الرجل فأخذني صاحب الشرطة وصيرني في مكان أثق به وتفرغ العباس لنفسه وتحنط وجهز له كفناً قال العباس: فلم أفرغ من صلاة الصبح إلا ورسل المأمون في طلبي يقولون يقول لك أمير المؤمنين هات الرجل معك وقم قال: فتوجهت إلى دار أمير المؤمنين فإذا هو جالس عليه ثيابه وهو ينتظرنا
فقال: أين الرجل؟
فسكت
فقال ويحك أين الرجل ؟!
فقلت يا أمير المؤمنين اسمع مني
فقال: لله عليَّ عهدٌ لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك .
فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ولكن اسمع حديثي وحديثه ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري.
فقال: قل فقلت يا أمير المؤمنين كان من حديثي معه كيت وكيت وقصصت عليه القصة جميعها وعرفته أنني أريد أن أوفي له وأكافئه على ما فعله معي
وقلت: أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين أما أن يصفح عني فأكون قد وافيت وكافأت وأما أن يقتلني فاقيه بنفسي وقد تحنطت وهذا كفني يا أمير المؤمنين فلما سمع المأمون الحديث قال: ويلك لا جزاك الله عن نفسك خيراً أنها فعل بك ما فعل من غير معرفة وتكافئه بعد المعرفة والعهد بهذا لا غيره !!
هلا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصر في وفائك له
فقلت: يا أمير المؤمنين إنه ههنا قد حلف أن لا يبرح حتى يعرف سلامتي فإن احتجت إلى حضوره حضر
 فقال: المأمون وهذه منَّةٌ أعظم من الأولى أذهب الآن إليه فطيب نفسه وسكن روعه وائتني به حتى أتولى مكافأته.

قال: العباس فأتيت إليه وقلت له ليزل خوفك إن أمير المؤمنين قال كيت وكيت فقال الحمد لله الذي لايحمد على السراء والضراء سواه ثم قام فصلى ركعتين ثم ركب وجئنا فلما مثل بين يدي أمير المؤمنين أقبل عليه وأدناه منه وحدثه حتى حضر الغداء وأكل معه وخلع عليه وعرض عليه ولاية  دمشق فاستعفى فأمر له المأمون بعشرة أفراس بسروجها ولجمها
وعشرة بغال بآلاتها وعشرة بدر وعشرة آلاف دينار وعشرة مماليك بدوابهم
 وكتب إلى عامله بدمشق بالوصية به واطلاق خراجه وأمره بمكاتبته بأحوال دمشق فصارت كتبه تصل إلى المأمون وكلما وصلت خريطة البريد وفيها كتابه يقول لي يا عباس هذا كتاب صديقك .

المصدر :
كتاب ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي
الجزء الاول  صفحة190 بتصرف يسير