بسم الله الرحمن الرحيم وبه أستعين
وبعد ...
ان مما دعاني إلى كتابة هذا المقال ، بعد أن تفشى هذا المرض الخطير والوباء الجسيم الذي حل في جميع البلدان ووقف الجميع أمامه وقفة الحيران ، وقد سمعنا ولا زلنا نسمع الكثير عن هذا المرض وما فتك بالشعوب ، ووجدت من بين ما أبحث عنه كتاب ( بذل الماعون في فضل الطاعون ) للحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى . فأحببت أن أنقل لكم اليسير مما ذكره الحافظ في كتابه وأرفق لكم الكتاب لمن أراد أن يستزيد . فقد عكف الفقهاء والكتاب على دراسة الأحاديث والأدلة الشرعية لهذه الأمراض المستعصية والتي لم يجد الطب والتقدم العلمي لها الجواب الشافي ، فكانت هذه الأوبئة شبيهة بوباء الطاعون الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام ، وكيف فسر العلماء أقوال النبي صلى الله عليه وسلم حول هذه العدوى وانتقالها بين الناس ، كقوله صلى الله عليه وسلم : (( فر من المجذوم فرارك من الأسد )) ([1]) ، وقوله : (( إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها ، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها ، فقلت أنت سمعته يحدث سعدا ، ولا ينكره ؟ قال نعم ))([2]) ، وقوله : (( لا يُوردن مُمرض على مُصح .. ))([3])
و حديث عمرو بن الشريد الثقفي عن أبيه قال : (( كان في وفد ثقيف رجل مجذوم ، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم : أن قد بايعناك فارجع ))([4]).
وحول قوله صلى الله عليه وسلم : (( لا عدوى ولا طيرة ، ولا هامة و لا صفر ، وفرّ من المجذوم كما تفر من الأسد .))([5]) وقوله (( لا يُعدى شئ شيئًا ))([6]) ، وقوله ـ لمن أثبت العدوى ـ : (( .... فمن أعدى الأول ))([7]) .
و غير ذلك من الأحاديث .. وسيتعرض الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى لكل هذه الأدلة .
و هذه النصوص ظاهرها التعارض ، و لكن لا تعارض في حقيقة الأمر ، وقد أدلى العلماء في ذلك بما يزيل هذا التعارض ، فقال ابن الصلاح : " وجه الجمع بينهما أن هذه الأمراض لا تعدي بطبعها ، و لكن الله تبارك و تعالى جعل مخالطة المريض بها للصحيح سببًا لإعدائه مرضه . ثم قال قد يتخلف
و قال البيهقي : وقد ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " لا عدوى " ، و لكنه أراد به على وجه الذي كانوا يعتقدونه في الجاهلية ، من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى ، و قد جعل ـ بمشيئته ـ مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب،سببًا لحدوث ذلك ،و كل ذلك بتقدير الله تعالى " فالعدوى إذن حاصلة ، ولكنها بتقدير الله ، و هذا أمر ينبغي أن لا يختلف فيها اثنان ، و هو الحق الذي يوفّق بين سائر الأدلة ، و لا يغير منه تطور العلم و اكتشاف الجراثيم و البكتريا الناقلة للأمراض شيئًا ، لأن هذه الجراثيم إنما تعمل بتقدير الله ، و الله يسلّطها على من يشاء .
و من واجبنا ـ كمسلمين ـ أن لا نلق بأنفسنا إلى التهلكة ، و أن نأخذ بالأسباب ، ونتقي بما يحفظنا أصلًا من هذه الأمراض ، من لقاح و تطعيم وكشف صحي و ما شابه ذلك . و أن نعتني بنظافة أفنيتنا ، و نطهرها من الهوامّ والحشرات مما يمكن أن يُنقل المرض عن طريقه . ثم إذا وقع المرض بعد ذلك ، أن نصبر و نحتسب و نتوكل على الله ، و نسلّم بالمقدور ، ونلتمس الدواء ، فإن الله قد جعل لكل داءٍ دواء.
و مما يتفرع على ذلك مسألة " الحجر الصحي " ؛ يقول القاضي تاج الدين السبكي : " و الذي نقوله في ذلك : إن شهد طبيبان عارفان مسلمان عدلان ، أن ذلك ـ يعني مخالطة الصحيح للمريض ـ سبب في أذى المخالط ، فالامتناع من مخالطته جائز ، أو أبلغ من ذلك " .
ومما جاء في كتاب بذل الماعون في فضل الطاعون " للحافظ ابن حجر رحمه الله:
قال المحقق التصنيف في الطاعون([8]) :
لا نجد قبل ابن أبي الدنيا ( ت : 281 هـ ) أحدًا أفرد كتابًا في الطاعون ، و إنما كانت أحاديث مبعثرة في بطون الكتب ، أو في صدور الناس .
حتى إذا كان طاعون عَمَواس ، أقبل الناس على استقصاء الأحاديث المتعلقة بالطاعون ، لما يترتب عليها من أحكام شرعية ؛ في جواز الخروج من البلد الذي يقع به الطاعون أو عدمه ، و غير ذلك مما ستجد تفصيله في ثنايا الكتاب .
فضلًا على خطورة هذا المرض ، و رغبة المسلمين في معرفة ما ورد من ذلك عن الشارع ، ليقفوا عنده و لا يجاوزوه فيأثموا . فقد مات في طاعون عمواس خمس و عشرون ألفًا([9]) ، فيهم عدد من كبار الصحابة ، منهم أبو عبيدة بن الجراح ، معاذ بن جبل ، شرحبيل بن حسنة ، و يزيد بن أبي سفيان ، و الحارث بن هشام بن المغيرة ( ، و غيرهم ، رضي الله عنهم جميعًا .
و قد عرف العرب هذا المرض ، و لكنه كان نادر الوقوع في بلادهم ، لأن انتشاره في المناطق الصحراوية أقل منه في غيرها .
قال عياض : أصل الطاعون القروح الخارجة في الجسد , والوباء عموم الأمراض ؛ فسميت طاعونًا لشبهها بالهلاك بذلك , وإلا فكل طاعون وباء , وليس كل وباء طاعونًا . ويدل على ذلك حديثُ أبي موسى : " الطاعون وخز أعدائكم من الجن . – وجاء في الكتاب أيضا أن الوخز قد يكون من الانس أيضا . قال تعالى : { إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ([10]) } – .
*وقد لخص الشيخ محيي الدين النووي في " شرح مسلم " كلام عياض . وقال في " تهذيب الأسماء واللغات " : الطاعون مرض معروف , وهو بَثَرٌ وورم مؤلم جدًا , يخرج مع لهيب , ويسودّ ما حواليه أو يخضرّ أو يحمرّ حمرة بنفسجية كدرة , ويحصل معه خفقانُ القلب والقيءُ , ويخرج في المراق والآباط غالبًا , وفي الأيدي والأصابع وسائر الجسد .
وقال في " الروضة " : فسّر بعضهم الطاعون بانصباب الدم إلى عضو . وقال أكثرهم : إنه هيجان الدم وانتفاخه . قال المتولي : وهو قريب من الجذام ؛ من أصابه تآكلت أعضاؤه وتساقط لحمه([11]) . انتهى .
* ذكر الحافظ في " الفصل الثاني :
" ذكر البيان بأن الطاعون إنما كان عذابًا على الكفرة فيمن مضى ،
لا على المسلمين منهم , وأنه لمؤمني هذه الأمة رحمة وشهادة . : (( وهو بقية عذاب عذب به من كان قبلكم )) هذا إسناد حسن .
*ثم رأيت في " المبتدأ " لابن إسحاق , في سبب تأسيس داود عليه السلام بيت المقدس : أن الله تعالى أوحى إلى داود أن بني إسرائيل قد كثر طغيانهم , فخيّرهم بين ثلاث : إما أن أبتليهم بالقحط سنتين , أو أسلَّط عليهم العدوّ شهرين , أو أرسل عليهم الطاعون ثلاثة أيام . فخيرهم , فقالوا : أنت نبينا فاختر لنا . فقال: أما الجوع فإنه بلاء فاضح لا صبر عليه , وأما العدو فلا بقية معه , فاختار لهم الطاعون . فمات منهم إلى أن زالت الشمس سبعون ألفًا, ويقال : مائة ألف . فتضرع داود إلى الله تعالى , فرفعه عنهم . فقال داود : إن الله تعالى قد رحمكم فأحدثوا لله شكرًا بقدر ما أبلاكم . فشرع في تأسيس المسجد , إلى أن كان إكماله على يد ولده سليمان عليهما الصلاة والسلام .
ووجدت أصل هذا الحديث عند أحمد والنسائي في " الكبرى " بسند على شرط مسلم , من طريق ثابت البناني , عن عبد الرحمن بن أبي ليلى , عن صهيب مرفوعًا . وصححه ابن حبان ؛ لكن لم يسمِّ فيه " داود " , وقال : " الموت " بدل " الطاعون " . وفي آخره أنه _ صلى الله عليه وسلم _ كان يقول عقب صلاة العصر _ وفي رواية : الفجر _ : " اللهم بك أقاتل , وبك أحاول _ وفي رواية : أصاول _ ، ولا حول ولا قوة إلا بك " ([12]).
ومن اختيارات الحافظ ابن حجر رحمه الله :
" يرى ابن حجر صحة حديث " فناء أمتى بالطعن والطاعون "
ويشمل " أمة الدعوة وامة الإجابة . "
* قال القاضي " عياض " وهذه عبارته في " شرح مسلم " فقال : الصحيح من الرواية أنه أخبره جبريل أن فناء أمته " بالطعن أو طاعون " ، فقال : " اللهم فناء بالطاعون " . قال : و هذا الذي يوافق حديثه الآخر : أن لا يجعل بأسهم بينهم ، وأن لا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم، انتهى .
قال القرطبى : ويظهر لي أن الروايتين صحيحتا المعنى. وبيانه أن مراد النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ بـ " أمته " المذكورة في الحديث (( إنما )) هم أصحابه ، لأنه دعا لأمته أن لا يسلط عليهم عدوًا من غيرهم فأجيب إلى ذلك ، فلا يذهب جميعهم بموت عام ولا عدو ، وعلى مقتضى الدعاء في حديث أبى قلابة ؛ يفنى جميعهم بالقتل والموت العام ، فتعين أن يصرف إلى الصحابة، لأنهم الذين اختار الله لمعظمهم الشهادة بالقتل في سبيل الله ، وبالطاعون الذي وقع في زمانهم فهلك
*وروى أبو بكر الرازي في كتابه " أحكام القرآن " ، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: أنه لما جهز الجيوش إلى الشام قال : " اللهم أفنهم بالطعن أو الطاعون "وقول أبى بكر رضي الله عنه، في حديث أبي موسى رضي الله عنه هذا ( اللهم طعنًا و طاعونًا في مرضاتك )؛ دعا به للجيوش الذين جهزهم ، جمعًا بين الخبرين. وكأنه لما رآهم على حالة الاستقامة ، خشي عليهم الفتنة ، فأحب ، أن يكون موتهم على الحالة التي خرجوا عليها قبل أن يفتنوا بالدنيا. ذكره أبو بكر الرازي في كتاب " أحكام القرآن " وكأن أبا بكر الصديق سمع الحديث المرفوع فتأسى به.
انتهى ومن أراد أن يستزيد فعليه بقراءة كتاب ابن حجر
سالم السلطان
رابط كتاب : بذل الماعون في فضل الطاعون
[1] - صحيح البخاري – عن أبي هريرة رقم الحديث 5707 .
[2] - البخاري ومسلم واللفظ للبخاري ، الراوي اسامة بن زيد رقم الحديث 5728 .
[3] - صحيح البخاري – عن أبي هريرة رقم الحديث 5771 .
[4] - صحيح مسلم – الراوي : الشريد بن سويد الثقفي – رقم الحديث 2231 .
[5] - صحيح البخاري – عن أبي هريرة رقم الحديث 5707 .
[6] - ابن حنبل برقم 8343 – الترمذي برقم 2143 – وابن حجر في اتحاف المهرة .
[7] - صحيح البخاري – عن أبي هريرة – رقم الحديث 5717 .
[8] - بذل الماعون في فضل الطاعون ص 34
[9] - تاريخ الطبري
[10] - آل عمران (140) .
[11] - بذل الماعون في فضل الطاعون ص 100
[12] - بذل الماعون في فضل الطاعون ص 96
